نولد من غير حول ولا قوة .. مجردين من كل
ما يمتلكه أهلنا إلا الفطرة
ونبدأ بالنمو واكتساب الكلمات والأحرف
.. ونحتفظ بها في عقلنا صوراً وذكريات ومعارف
تبني شخصيتنا شيئاً فشيئاً
وكلما كبرنا وتعلمنا أكثر .. زادت ثقتنا
بأنفسنا أكثر فأكثر
حتى إذا وصلنا إلى عمر الشباب وقد تجاوزنا
المراحل المدرسية كافة ومن ثم تخرجنا من الجامعة
تفاخرنا بأنفسنا وبما تعلمناه وأنجزناه
خلال ربع قرن
خمسٌ وعشرون سنة متتالية من التجارب والدراسة
والقراءة والتعلم والامتحانات والتربية وتلقي المحاضرات
وسماع ملاحظات الأهل والأساتذة والأقارب
والعالم المحيط
وتلقّي الأفكار والعادات والتقاليد والحكم
والأمثال واللغات والتكنولوجيا
تجعل من أنفسنا واثقة ظناً منها أنها وصلت
إلى مرحلة عمرية ناضجة لا تعرف فيها الخطأ
فنقوم بالمناقشة والمجادلة مع من نعرف ولا
نعرف .. مع الجاهل والعارف .. والمثقف والأمي .. مع الكبار والصغار ومن هم في كل الأعمار
ونحتد غضباً إذا ما خالفنا أحدهم الرأي
وأصر على مناقشتنا محاولة منه بإقناعنا بوجهة نظره أو معارفه أو خبراته الحياتية
وهنا .. نكون قد وصلنا إلى الثقة العمياء
بالنفس !!
تلك الثقة التي تدفعنا للظن بأننا لم نعد
بحاجة لأي مخلوق آخر فكرياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو علمياً
فيكون همنا الوحيد هو الانتصار في المناقشات
بل إسكات الغير في المجادلات
والثقة العمياء إنما تعني الثقة المطلقة
التي لا شك ولا ريب فيها
ولكن هل يوجد مطلق فعلاً؟ وهل يوجد أمر
مسلم به إلى حد عدم الشك والريب به نهائياً؟
الأمر المطلق الوحيد الذي لا نستطيع الشك
أو الريب بشأنه هو الله سبحانه وتعالى
وإنما الكمال لله وحده .. فأما نحن والآخرون
.. السابقون واللاحقون .. لسنا إلا بشراً جُبلنا على النقص
إذاً فالثقة العمياء لا يمكن أن تكون إلا
لله وحده
سيقول لي أحدكم الآن: وماذا عن أنفسنا وقد
تعلمنا من خبراتنا وخبرات أصحاب العلم أن الثقة بالنفس أساس النجاح وتحقيق الأهداف
في الحياة؟
نعم، إن الثقة بالنفس من أهم أسباب النجاح
والاستمرار في العمل الدؤوب والاجتهاد والإصرار في وجه العقبات
ولكن .. الثقة العمياء بالنفس لن تؤدي بالإنسان
إلا إلى الاعتداد بنفسه وإيمانه بأنه قادر وحده على كل شيء وأنه قد جمع العلم من أوسع
أبوابه
وأنه لا أحد يفهم في مجاله إلا هو .. وكأنه
“آينشتاين” وكل من حوله جاهلون لا يفقهون في العلم شيئاً ولا يفرقون بين الألف والياء
إذاً فالثقة العمياء تؤدي إلى الغرور ومن
ثم إلى التكبّر
والذي هو أكبر مصيدة للإنسان الهشّ الذي
لا يؤمن بأننا خلقنا لنكمّل بعضنا فلكل منا فكرة ولكل منا زاوية ينظر منها إلى الأمور
وإلا لما احتاج أصحاب العلم وأهل الأدب
والمثقفون والناجحون ورواد الأعمال والمخترعون إلى نشر معارفهم وتأليف كتب تحتوي بين
سطورها خبرات أفنوا عمرهم كاملاً لجمعها وتنقيحها ودراستها وتجريبها والفشل فيها عدة
مرات ومن ثم تعديلها للوصول إليها منطقيّة حقيقيّة مثبتة بأدلة سهروا ليالي عمرهم من
أجلها.
ثق بنفسك
ولكن .. ثق باعتدال ومنطق .. ثق بنفسك وشجعها
.. ولا تخجل من عدم معرفة شيء فلا يمكن لإنسان أن يختتم العلم والمعارف كاملة مهما
بلغ عقله من ذكاءٍ وفطنة.
ولتكن ثقتك العمياء بالذي أوجدك ومنحك هذه الوسيلة
مذهلة التعقيد (العقل)
وتوّجك بقدرات هائلة كامنة لتبني الأرض
بأفكارك وشخصيتك وتترك بصمتك المميزة على جبين الحياة
وأعطِ الثقة لمن يستحقها من حولك فقط
.. حتى لا تكون شكاكاً لا يظن بالآخرين إلا السوء
اسأل واستشر وناقش وتعلّم .. واجمع المعلومات
والأفكار دوماً .. ثم كوّن أفكارك الخاصة ومنطقك السليم الخاص وشخصيتك الراقية البنائة
وتذّكر أن أفكارك وشخصيتك هما منحوتتك الخاصة
.. ولتبدع !
Comments
Post a Comment